فصل: سفر السلطان إلى الشام لمدافعة الططر عن بلاده

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  سفر السلطان إلى الشام لمدافعة الططر عن بلاده

هؤلاء الططر من شعوب الترك وقد اتفق النسابه والمؤرخون على أن أكثر أمم العالم فرقتان وهما‏:‏ العرب والترك وليس في العالم أمة أوفر منهما عدداً هؤلاء في جنوب الأرض وهؤلاء في شمالها وما زالوا يتنابون الملك في العالم فتارة يملك العرب ويزحلون الأعاجم إلى آخر الشمال وأخرى يزحلهم الأعاجم والترك إلى طرف الجنوب سنة الله في عباده‏.‏فلنذكر كيف انساق الملك لهؤلاء الططر واستقرت للدول الإسلامية فيهم لهذا العهد فنقول‏:‏ إن الله سبحانه خلق هذا العالم واعتمره بأصناف البشر على وجه الأرض في وسط البقعة التي انكشفت من الماء فيه وهي عند أهل الجغرافيا مقدار الربع منه وقسموا هذا المعمور بسبعة أجزاء يسمونها الأقاليم مبتدئة من خط الاستواء بين المشرق والمغرب وهو الخط الذي تسامت الشمس فيه رؤوس السكان إلى تمام السبعة أقاليم‏.‏وهذا الخط في جنوب المعمور وتنتهي السبعة الأقاليم في شماله‏.‏وليس في جنوب خط الاستواء عمارة إلى آخر الربع المنكشف لإفراط الحر فيه وهو يمنع من التكوين وكذلك ليس بعد الأقاليم السبعة في جهة الشمال عمارة لإفراط البرد فيها وهو مانع من التكوين أيضاً ودخل الماء المحيط بالأرض من جهة الشرق فوق خط الاستواء بثلاث عشرة درجة في مدخل فسيح وانساح مع خط الاستواء مغرباً فمر بالصين والهند والسند واليمن في جنوبها كلها‏.‏وانتهى إلى وسط الأرض عند باب المندب وهو البحر الهندي والصيني ثم انحرف من طرفه الغربي في خليج عند باب المندب ومر في جهة الشمال مغرباً باليمن وتهامة والحجاز ومدين وأيلة وفاران وانتهى إلى مدينة القلزم ويسمى بحر السويس وفي شرقيه بلاد الصعيد إلى عيذاب وبلا البجاة وخرج من هذا البحر الهندي من وسطه خليج آخر يسمى الخليج الأخضر ومر شمالاً إلى الأبلة ويسمى بحر فارس وعليه في شرقيه بلاد فارس وكرمان والسند ودخل الماء أيضاً من جهة الغرب في خليج متضايق في الإقليم الرابع ويسمى بحر الزقاق تكون سعته هنالك ثمانية عشر ميلاً‏.‏ويمر مشرقاً ببلاد البربر من المغرب الأقصى والأوسط وأرض إفريقية والإسكندرية‏.‏وأرض التيه وفلسطين والشام وعليه في الغرب بلاد الإفرنج كلها وخرج منه في الشمال خليجان‏:‏ الشرقي منهما خليج القسطنطينية والغربي خليج البنادقة ويسمى هذا البحر البحر الرومي والشامي‏.‏ثم إن هذه السبعة الأقاليم المعمورة تنقسم من شرقيها وغربيها بنصفين‏:‏ فنصفها الغربي في وسطه البحر الرومي وفي النصف الشرقي من جانبه الجنوبي البحر الهندي وكان هذا النصف الغربي أقل عمارة من النصف الشرقي لأن البحر الرومي المتوسط فيه انفسح في انسياحه فغمر الكثير من أرضه‏.‏والجانب الجنوبي منه قليل العمارة لشدة الحر فالعمران فيه من جانب الشمال فقط والنصف الشرقي عمرانه أكثر بكثير لأنه لا بحر في وسطه يزاحم‏.‏وجانبه الجنوبي فيه البحر الهندي وهو متسع جداً فلطف الهواء فيه بمجاورة الماء وعدل مزاجه للتكوين فصارت أقاليمه كلها قابلة للعمارة فكثر عمرانه‏.‏وكان مبدأ هذا العمران في العالم من لون آدم صلوات الله عليه وتناسل ولده أولاً في ذلك النصف الشرقي وبادت تلك الأمم ما بينه وبين نوح ولم نعلم شيئاً من أخبارها لأن الكتب الإلهية لم يرد علينا فيها إلا أخبار نوح وبنيه وأما ما قبل نوح فلم نعرف شيئاً من أخباره وأقدم الكتب المنزلة المتداولة بين أيدينا التوراة وليس فيها من أخبار تلك الأجيال شيء ولا سبيل إلى اتصال الأخبار القديمة إلا بالوحي وأما الأخبار فهي تدرس بدروس أهلها‏.‏واتفق النسابون على أن النسل كله منحصر في بني نوح وفي ثلاثة من ولده وهم سام وحام ويافث فمن سام‏:‏ العرب والعبرانيون والسبائيون ومن حام‏:‏ القبط والكنعانيون والبربر والسودان ومن يافث‏:‏ الترك والروم والخزر والفرس والديلم والجيل‏.‏ولا أدري كيف صح انحصار النسب في هؤلاء الثلاثة عند النسابين أمن النقل وهو بعيد كما قدمناه أو هو رأي تفرع لهم من انقسام جماعة المعمور فجعلوا شعوب كل جهة لأهل نسب واحد يشتركون فيه فجعلوا الجنوب لبني سام والمغرب لبني حام والشمال لبني يافث‏.‏إلا أنه المتناقل بين النسابة في العالم كما قلناه فلنعتمده ونقول‏:‏ أول من ملك الأرض من نسل نوح عليه السلام النمرود بن كنعان بن كوش بن حام ووقع ذكره في التوراة‏.‏وملك بعده عابر بن شالخ الذي ينسب إليه العبرانيون والسريانيون وهم النبط وكانت لهم الدولة العظيمة وهم ملوك بابل من نبيط بن أشور بن سام وقيل نبيط بن ماش بن إرم وهم ملوك الأرض بعد الطوفان على المسعودي‏.‏وغلبهم الفرس على بابل وما كان في أيديهم من الأرض وكانت في العالم دولتان عظيمتان لملوك بابل هؤلاء وللقبط بمصر‏:‏ هذه في المغرب والأخرى في المشرق وكانوا ينتحلون الأعمال السحرية ويعولون عليها في كثير من أعمالهم وبرابي مصر وفلاحة ابن وحشية يشهدان بذلك‏.‏فلما غلب الفرس على بابل استقل لهم ملك المشرق وجاء موسى - صلوات الله عليه - بالشريعة الأولية وحرم السحر وطرقه وغلب الله له القبط بإغراق فرعون وقومه ثم ملك بنو إسرائيل الشام واختطوا بيت المقدس وظهر الروم في ناحية الشمال والمغرب فغلبوا الفرس الأولى على ملكهم‏.‏وملك ذو القرنين الإسكندر ما كان بأيديهم ثم صار ملك الفرس بالمشرق إلى ملوكهم الساسانية وملك بني يونان بالشام والمغرب إلى القياصرة كما ذكرنا ذلك كله من قبل‏.‏وأصبحت الدولتان عظيمتين وانتظمتا العالم بما فيه‏.‏ونازع الترك ملوك فارس في خراسان وما وراء النهر وكانت بينهم حروب مشهورة واستقر ملكهم في بني أفراسياب ثم ظهر خاتم الأنبياء محمد صلوات الله عليه وجمع العرب على كلمة الإسلام فاجتمعوا له ‏"‏ لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ‏"‏ وقبضه الله إليه وقد أمر بالجهاد ووعد عن الله بأن الأرض لأمته فزحفوا إلى كسرى وقيصر بعد سنتين من وفاته فانتزعوا الملك من أيديهما وتجاوزوا الفرس إلى الترك والروم إلى البربر والمغرب وأصبح العالم كله منتظماً في دعوة الإسلام‏.‏ثم اختلف أهل الدين من بعده في رجوعهم إلى من ينظم أمرهم وتشيع قوم من العرب فزعموا أنه أوصى بذلك لابن عمه علي وامتنع الجماعة من قبول ذلك وأبوا إلا الاجتهاد في تعيينه فمضى على ذلك السلف في دولة بني أمية التي استفحل الملك والإسلام فيها وتنافل التشيع بتشعب المذاهب في استحقاق بني علي وأيهم يتعين له ذلك حتى انساق مذهب من مذاهبهم إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فظهرت شيعته بخراسان وملكوا تلك الأرض كلها والعراق بأسره‏.‏ثم غلبوا على بني أمية وانتزعوا الملك من أيديهم واستفحل ملكهم والإسلام باستفحاله وتعمد خلفاؤهم‏.‏ ثم خامر الدولة ما يخامر الدول من الترف والراحة ففشلوا‏.‏وكثر المنازعون لهم من بني علي وغيرهم فظهرت دولة لبني جعفر الصادق بالمغرب وهم العبيديون بنو عبيد الله المهدي بن محمد قام بها كتامة وقبائل البربر واستولوا على المغرب ومصر ودولة بني العلوي بطبرستان قام بها الديلم وإخوانهم الجيل ودولة بني أمية النائية بالأندلس لأن بني العباس لما غلبوهم بالمشرق وأكثروا القتل فيهم هرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ونجا إلى المغرب‏.‏ثم ركب البحر إلى الأندلس فاجتمع عليه من كان هنالك من العرب وموالي بني أمية فاستحدث هنالك ملكا آخر لهم وانقسمت الملة الإسلامية بين هذه الدول الأربع إلى المائة الرابعة‏.‏ثم انقرض ملك العلوية من طبرستان وانتقل إلى الديلم فاقتسموا خراسان وفارس والعراق وغلبوا على بغداد وحجر الخليفة بها بنو بويه منهم‏.‏وكان بنو سامان - من اتباع بني طاهر - قد تقلدوا عمالات ما وراء النهر فلما فشل أمر الخلافة استبدوا بتلك النواحي وأصاروا لهم فيها ملكاً ضخماً وكان آخرهم محمود بن سبكتكين من مواليهم فاستبد عليهم وملك خراسان وما وراء النهر إلى الشاش ثم غزنة وما وراءها جنوباً إلى الهند‏.‏وأجاز إلى بلاد الهند فافتتح منها كثيراً واستخرج من كنوزها ذخائر لم يعثر عليها أحد قبله‏.‏وأقامت الملة على هذا النمط إلى انقضاء المائة الرابعة وكان الترك منذ تعبدوا للعرب وأسلموا على ما بأيديهم وراء النهر من كاشغر والصاغون إلى فرغانة وولاهم الخلفاء عليها فاستحدثوا بها ملكاً وكانت بوادي الترك في تلك النواحي منتجعة أمطار السماء وعشب الأرض وكان الظهور فيهم لقبيلة العز من شعوبهم وهم الخوز إلا أن استعمال العرب عرب خاءها المعجمة غينا وأدغمت واوها في الزاي الثانية فصارت زاياً واحدة مشددة‏.‏وكانت رياسة الغز هؤلاء في بني سلجوق بن ميكائيل وكانوا يستخدمون لملوك الترك بتركستان تارة ولملوك بني سامان في بخاري أخرى‏.‏وتحدث بينهما الفتنة فيتألفون من شاءوا منهما ولما تغلب محمود بن سبكتكين على بني سامان وأجاز من خراسان فنزل بخاري واقتعد كرسيهم وتقبض على كبار بني سلجوق هؤلاء وحبسهم بخراسان‏.‏ثم مات وقام بالأمر أخوه مسعود فملك مكانه وانتقض على بنو سلجوق هؤلاء وأجاز الغز إلى خراسان فملكوها وملكوا طبرستان من يد الديلم ثم إصبهان وفارس من أيدي بني بويه وملكهم يومئذ طغرلبك بن ميكائيل من بني سلجوق وغلب على بغداد من يد بني معز الدولة بن بويه المستبدين على الخليفة يومئذ المطيع وحجره عن التصرف في أمور الخلافة والملك ثم تجاوز إلى عراق العرب فغلب على ملوكه وأبادهم ثم بلاد البحرين وعمان ثم على الشام وبلاد الروم واستوعب ممالك الإسلام كلها فأصارها في ملكه وانقبضت العرب راجعة إلى الحجاز مسلوبة من الملك كأن لم يكن لهم فيه نصيب وذلك أعوام الأربعين والأربعمائة وخرج الإفرنج على بقايا بني أمية بالأندلس فانتزعوا الملك من أيديهم واستولوا على حواضر الأندلس وأمصارها وضاق النطاق على العبيديين بالقاهرة بملوك الغز يزاحمونهم فيها من الشام بمحمود بن زنكي وغيره من أبنائهم ومماليكهم وبملوك المغرب قد اقتطعوا ما وراء الإسكندرية بملوك صنهاجة في إفريقية والملثمين المرابطين بعدهم بالمغرب الأقصى والأوسط والمصامدة الموحدين بعدهم كذلك وأمام الغز والسلجوقية في ملك المشرق وبنوهم ومواليهم من بعدهم إلى انقضاء القرن السادس وقد فشل ريح الغز واختفت دولتهم فظهر فيهم جنكيزخان أمير المغل من شعوب الططر وكانت كاهناً وجده النجر كاهناً مثله‏.‏ويزعمونه أنه ولد من غير أب فغلب الغز في المفازة واستولى على ملك الططر وزحف إلى كرسي الملك بخوارزم‏.‏وهو علاء الدين خوارزم شاه سلفه من موالي طغرلبك فغالبه على ملكه وفر أمامه واتبعه إلى بحيرة طبرستان فنجا إلى جزيرة فيها ومرض هنالك ومات ورجع جنكيزخان إلى زندران من أمصار طبرستان فنزلها وأقام بها وبعث عساكره من المغل حتى استولوا على جميع ما كان للغز وأنزل ابنه طولى بكرسي خراسان وابنه دوشيخان بصراي وبلاد الترك وابنه جقطاي بكرسي الترك فيما وراء النهر وهي كاشغر وتركستان وأقام بما زندران إلى أن مات جنكيزخان ولحفن بها ومات ابنه طولي وله ولدان قبلاي وهولاكو ثم هلك قبلاي واستقل هولاكو بملك خراسان وحدث بينه وبين بركة بن دوشيخان فتنة بالمنازعة في القانية تحاربوا فيها طويلاً ثم اقصروا وصرف هولاكو وجهه إلى بلاد أصبهان وفارس ثم إلى الخلفاء المستبدين ببغداد وعراق العرب فاستولى على تلك النواحي واقتحم بغداد على الخليفة المستعصم آخر بني العباس وقتله وأعظم فيها العيث والفساد وهو يومئذ على دينه من المجوسية ثم تخطاه إلى الشام فملك أمصاره وحواضره إلى القدس وملوك مصر يومئذ من موالي بني أيوب قد استحاشوا ببركة صاحب صراي فزحف إلى خراسان ليأخذ بحجزة هولاكو عن الشام ومصر‏.‏وبلغ خبره إلى هولاكو فحرد لذلك لما بينهما من المنافسة والعداوة وكر راجعاً إلى العراق ثم إلى خراسان لمدافعة بركة‏.‏وطالت الفتنة بينهما إلى أن هلك هولاكو سنة ثلاث وستين من المائة السابعة وزحف أمراء مصر من موالي بني أيوب وكبيرهم يومئذ قطز وهو سلطانهم فاستولى على أمصار الشام التي كان هولاكو انتزعها من أيدي بني أيوب واحدة واحدة واستضاف الشام إلى مصر في ملكه‏.‏ثم هدى الله أبغا بن هولاكو إلى الإسلام فأسلم بعد أن كان أسلم بركة ابن عمه صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان على يد مريد من أصحاب شمس الدين كبرى فتواطأ هو وأبغا بن هولاكو علي الإسلام‏.‏ثم أسلم بعد ذلك بنو جقطاي وراء النهر فانتظمت ممالك الإسلام في أيدي ولد جنكيزخان من المغل ثم من الططر ولم يخرج عن ملكهم منها إلا المغرب والأندلس ومصر والحجاز وأصبحوا وكأنهم في تلك الممالك خلف من السلجوقية والغز‏.‏واستمر الأمر على ذلك لهذا العهد وانقرض ملك بني هولاكو بموت أبي سعيد آخرهم سنة أربعين من المائة الثامنة‏.‏وافترقت دولتهم بين عمال الدولة وقرابتها من المغل فملك عراق العرب وأذربيجان وتوريز الشيخ حسن سبط هولاكو واتصل ملكها في بنيه لهذا العهد وملك خراسان وطبرستان شاه ولي من تابعة بني هولاكو وملك إصبهان وفارس بنو مظفر البردي من عمالهم أيضاً وأقاموا بنو دوشي خان في مملكة صراي وآخرهم بها طقطمش بن بردي بك ثم سما لبني جقطاي وراء النهر وملوكهم أمل في التغلب على أعمال بني هولاكو وبني دوشي خان بما استفحل ملكهم هنالك لعدم الترف والتنعم فبقوا على البداوة وكان لهم ملك اسمه ساطلمش هلك لهذا العهد وأجلسوا ابنه على التخت مكانه وأمراء بني جقطاي جميعاً في خدمته وكبيرهم تيمور المعروف بتمر بن طرغاي فقام بأمر هذا الصبي وكفله وتزوج أمه ومد يده إلى ممالك بني دوشي خان التي كانت على دعوتهم وراء النهر مثل سمرقند وبخاري وخوارزم وأجاز إلى طبرستان وخراسان فملكها‏.‏ثم ملك أصبهان وزحف إلى بغداد فملكها من يد أحمد بن أويس‏.‏وفر أحمد مستجيراً بملك مصر وهو الملك الظاهر برقوق وقد تقدم ذكره فأجاره ووعده النصر من عدوه‏.‏وبعث الأمير تمر رسلاً إلى صاحب مصر يقررون معه الولاية والاتحاد وحسن الجوار فوصلوا إلى الرحبة فلقيهم عاملها ودار بينهم الكلام فأوحشوه في الخطاب وأنزلهم فبيت جميعهم وقتلهم‏.‏ وخرج الظاهر برقوق من مصر وجمع العرب والتركمان وأناخ على الفرات وصرخ بطقطمش من كرسيه بصراي فحشد ووصل إلى الأبواب‏.‏ثم زحف تمر إلى الشام سنة لست وتسعين وبلغ الرها والظاهر يومئذ على الفرات فخام تمر عن لقائه‏.‏وسار إلى محاربة طقطمش فاستولى على أعماله كلها ورجعت قبائل المغل إلى تمر وساروا تحت رايته‏.‏وذهب طقطمش في ناحية الشمال وراء بلغار متذمماً بقبائل أروس من شعوب الترك في الجبال‏.‏وسارت عصائب الترك كلها تحت رايات تمر ثم اضطرات ملوك الهند واستصرخ خارج منهم بالأمير تمر فسار إليهم في عساكر المغل وملك دلي وفر صاحبها إلى كنباية مرسى بحر الهند وعاثوا في نواحي بلاد الهند‏.‏ثم بلغه هنالك مهلك الظاهر برقوق بمصر فرجع إلى البلاد ومر على العراق ثم على أرمينية وأرزنكان حتى وصل سيواس فخربها وعاث في نواحيها ورجع عنها أول سنة ثلاث من المائة التاسعة‏.‏ونازل قلعة الروم فامتنعت وتجاوزها إلى حلب فقابله نائب الشام وعساكره في ساحتها ففضهم واقتحم المغل المدينة من كل ناحية‏.‏ووقع فيها من العيث والنهب والمصادرة واستباحة الحرم ما لم يعهد الناس مثله ووصل الخبر إلى مصر فتجهز السلطان فرج ابن الملك الظاهر إلى المدافعة عن الشام وخرج في عساكره من الترك مسابقاً المغل وملكهم تمر أن يصدهم عنها‏.‏لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر لما وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تمر ملك بلاد الروم وخرب سيواس ورجع إلى الشام جمع السلطان عساكره وفتح ديوان العطاء ونادى في الجند بالرحيل إلى الشام وكنت أنا يومئذ معزولاً عن الوظيفة فاستدعاني دواداره يشبك وأرادني على السفر معه في ركاب السلطان فتجافيت عن ذلك‏.‏ثم أظهر العزم علي بلين القول وجزيل الإنعام فأصخيت وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث فوصلنا إلى غزة فأرحنا بها أياماً نترقب الأخبار ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الططر إلى أن نزلنا شقحب وأسرينا فصبحنا دمشق والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبك قاصداً دمشق فضرب السلطان خيامه وأبنيته بساحة قبة يلبغا‏.‏ويئس الأمير تمر من مهاجمة البلد فأقام بمرقب على قبة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثاً أو أربعاً فكانت حربهم سجالاً ثم نمي الخبر إلى السلطان وأكابر أمرائه أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم واختلال الدولة بذلك فأسروا ليلة الجمعة من شهر‏.‏وركبوا جبل الصالحية ثم انحطوا في شعابه وساروا على شافة البحر إلى غزة وركب الناس ليلاًيعتقدون أن السلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر فساروا عصباً وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر وأصبح أهل دمشق وجاءني القضاة والفقهاء واجتمعت بمدرسة العادلية واتفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم وحرمهم وشاوروا في ذلك نائب القلعة فأبى عليهم ذلك ونكره فلم يوافقوه‏.‏وخرج القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي ومعه شيخ الفقراء بزاوية‏.‏فأجابهم إلى التأمين وردهم باستدعاء الوجوه والقضاة فخرجوا إليه متدلين من السور بما صبحهم من التقدمة فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان وردهم على أحسن الآمال واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد وتصرف الناس في المعاملات ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها ويملك أمرهم بعز ولايته‏.‏

وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عني وهل سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول‏.‏وبلغني الخبر من جوف الليل فخشيت البادرة على نفسي وبكرت سحراً إلى جماعة القضاة عند الباب وطلبت الخروج أو التدلي من السور لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر فأبوا علي أولاً ثم أصخوا لي ودلوني من السور فوجدت بطانته عند الباب ونائبه الذي عينه للولاية على دمشق واسمه شاه ملك من بني جقطاي أهل عصابته فحييتهم وحيوني وفديت وفدوني وقدم لي شاه ملك مركوباً وبعث معي من بطانة السلطان من أوصلني إليه‏.‏فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه ثم زيد في التعريف باسمي أني القاضي المالكي المغربي فاستدعاني ودخلت عليه بخيمة جلوسه متكئاً على مرفقه وصحاف الطعام تمر بين يديه يشير بها إلى عصب المغل جلوساً أمام خيمته حلقاً حلقاً‏.‏فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام وأوميت إيماءة الخضوع فرفع رأسه ومد يده إلي فقبلتها وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت‏.‏ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم فأقعده يترجم ما بيننا وسألني من أين جئت من المغرب ولما جئت فقلت‏:‏ جئت من بلادي لقضاء الفرض ركبت إليها البحر ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع وثمانين من هذه المائة الثامنة والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظاهر على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها‏.‏فقال لي‏:‏ وما فعل معك قلت كل خير بر مقدمي وأرغد قراي وزودني للحج ولما رجعت وفر جرايتي وأقمت في ظله ونعمته رحمه الله وجزاه‏.‏فقال‏:‏ وكيف كانت توليته إياك القضاء‏.‏فقلت‏:‏ مات قاضي المالكية قبل موته بشهر وكان يظن بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة وتحري المعدلة والحق والإعراض عن الجاه فولاني مكانه ومات لشهر بعدها فلم يرض أهل الدولة بمكاني فأدالوني منها بغيري جزاهم الله‏.‏فقال لي‏:‏ وأين ولدك فقلت‏:‏ بالمغرب الجواني كاتب للملك الأعظم هنالك‏.‏فقال وما معنى الجواني في وصف المغرب فقلت هو في عرف خطابهم معناه الداخلي أي الأبعد لأن المغرب كله على ساحل البحر الشامي من جنوبه فالأقرب إلى هنا برقه إفريقية والمغرب الأوسط‏:‏ تلمسان وبلاد زناتة والأقصى‏:‏ فاس ومراكش وهو معنى الجواني‏.‏فقال لي‏:‏ وأين مكان طنجة من ذلك المغرب‏.‏فقلت‏:‏ في الزاوية التي بين البحر المحيط والخليج المسمى بالزقاق وهو خليج البحر الشامي فقال‏:‏ وسبته قلت‏:‏ على مسافة من طنجة على ساحل الزقاق ومنها التعدية إلى الأندلس لقرب مسافته لأنها هناك نحو العشرين ميلاً‏.‏فقال‏:‏ وفاس‏.‏فقلت‏:‏ ليست على البحر وهي في وسط التلول وكرسي ملوك المغرب من بني مرين‏.‏فقال‏:‏ وسجلماسة قلت‏:‏ في الحد ما بين الأرياف والرمال من جهة الجنوب‏.‏فقال‏:‏ لا يقنعني هذا وأحب أن تكتب لي بلاد المغرب كلها أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره حتى كأني أشاهده‏.‏فقلت‏:‏ يحصل ذلك بسعادتك وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنظفة القطع‏.‏ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة ويحكمونه على أبلغ ما يمكن فأحضرت الأواني منه وأشار تعرضها علي فمثلت قائماً وتناولتها وشربت واستطبت ووقع ذلك منه أحسن المواقع ثم جلست وسكتنا وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية صدر الدين المناوي أسره التابعون لعسكر مصر‏.‏بشقحب وردوه فحبس عندهم في طلب الفدية منه فأصابنا من ذلك وجل فزورت في نفسي كلاماً أخاطبه به وأتلطفه بتعظيم أحواله وملكه‏.‏وكنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيراً من الحدثان في ظهوره وكان المنجمون المتكلمون في قرانات العلويين يترقبون القران العاشر في المثلثة الهوائية وكان يترقب عام ستة وستين من المائة السابعة‏.‏فلقيت ذات يوم من عام أحد وستين بجامع القرويين من فاس الخطيب أبا علي بن باديس خطيب قسنطينة وكان ماهراً في ذلك الفن فسألته عن هذا القرآن المتوقع وما هي آثاره فقال لي‏:‏ يدل على ثائر عظيم في الجانب الشمالي الشرقي من أمة بادية أهل خيام تتغلب على الممالك وتقلب الدول وتستولي على أكثر المعمور‏.‏فقلت‏:‏ ومتى زمنه‏.‏فقال‏:‏ عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره‏.‏وكتب لي بمثل ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي طبيب ملك الإفرنج ابن أذفونش ومنجمه‏.‏وكان شيخي رحمه الله إمام المعقولات محمد بن إبراهيم الآبلي متى فاوضته في ذلك أو سابلته عنه يقول‏:‏ أمره قريب ولا بد لك إن عشت أن تراه‏.‏وأما المتصوفة فكنا نسمع عنهم بالمغرب لرقبهم لهذا الكائن ويرون إن القائم به هو الفاطمي المشار إليه في الأحاديث النبوية من الشيعة وغيرهم فأخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب إن الشيخ قال لهم ذات يوم وقد انفتل من صلاة الغداة‏:‏ إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي وكان ذلك في عشر الأربعين من المائة الثامنة فكان في نفسي من ذلك كله ترقب له‏.‏فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنت فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح إليه ويأنس به مني ففاتحته وقلت‏:‏ أيدك الله‏!‏ لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك‏.‏فقال لي الترجمان عبد الجبار‏:‏ وما سبب ذلك فقلت‏:‏ أمران الأول أنك سلطان العالم وملك الدنيا وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف فإني من أهل العلم وأبين ذلك فأقول‏:‏ إن الملك إنما يكون بالعصبية وعلى كثرتها يكون قدر الملك واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد أن أكثر أمم البشر فرقتان‏:‏ العرب والترك وأنتم تعلمون ملك العرب كيف كان لما اجتمعوا في دينهم على نبيهم وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم من الملك‏.‏ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى أو قيصر أو الإسكندر أو بختنصر أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم وأين الفرس من الترك وأما قيصر والإسكندر فملوك الروم وأين الروم من الترك وأما بختنصر فكبير أهل بابل والنبط‏.‏وأين هؤلاء من الترك وهذا برهان ظاهر على ما ادعيته في هذا الملك‏.‏وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمني لقائه فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب والأولياء وذكرت ما قصصته من ذلك قبل‏.‏فقال لي‏:‏ وأراك قد ذكرت بختنصر مع كسرى وقيصر والإسكندر ولم يكن في عدادهم لأنهم ملوك أكابر‏.‏وبختنصر قائد من قواد الفرس كما أنا نائب من نواب صاحب التخت وهو هذا وأشار إلى الصف القائمين وراءه وكان واقفاً معهم وهو ربيبه الذي تقدم لنا أنه تزوج أمه بعد أبيه ساطلمش فلم يلفه هناك وذكر له القائمون في ذلك الصف أنه خرج عنهم‏.‏فرجع إلي فقال‏:‏ ومن أي الطوائف هو بختنصر فقلت‏:‏ بين الناس فيه خلاف فقيل من النبط بقية ملوك بابل وقيل من الفرس الأولى فقال‏:‏ يعني من ولد منوشهر‏.‏قلت نعم هكذا ذكروا فقال‏:‏ ومنوشهر له علينا ولادة من قبل الأمهات‏.‏ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه وقلت له‏:‏ وهذا مما يجعلني على بني لقائه‏.‏فقال الملك‏:‏ وأي القولين أرجح عندك فيه فقلت إنه من عقبة ملوك بابل فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر‏.‏فقلت‏:‏ يعكر علينا رأي الطبري فإنه مؤرخ الأمة ومحدثهم ولا يرجحه غيره فقال‏:‏ وما علينا من الطبري نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم ونناظرك‏.‏فقلت‏:‏ وأنا أيضاً أناظر على رأي الطبري وانتهى بنا القول فسكت وجاءه الخبر بفتح باب المدينة وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان فرفع من بين أيدينا لما في ركبته من الداء وحمل على فرسه فقبض شكائمه واستوى في مركبه‏.‏وضربت الآلات حفافيه حتى ارتج لها الجو‏.‏وسار نحو دمشق ونزل في تربة منجك عند باب الجابية فجلس هناك ودخل إليه القضاة وأعيان البلد ودخلت في جملتهم فأشار إليهم بالانصراف وإلى شاه ملك نائبه أن يخلع عليهم في وظائفهم وأشار إلي بالجلوس فجلست بين يديه‏.‏ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء فأحضروا عرفاء البنيان المهندسين وتناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة لعلهم يعثرون بالصناعة على منفذه فتناظروا في مجلسه طويلاً ثم انصرفوا وانصرفت إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك فأذن فيه‏.‏وأقمت في كسر البيت واشتغلت بما طلب مني في وصف بلاد المغرب فكتبته في أيام قليلة ورفعته إليه فأخذه من يدي وأمر فوقعه بترجمته إلى اللسان المغلي‏.‏ثم اشتد في حصار القلعة ونصب عليها الآلات من المجانيق والنفوط والعرادات والنقب فنصبوا لأيام قليلة ستين منجنيقاً إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى وضاق الحصار بأهل القلعة وتهدم بناؤها من كل جهة فطلبوا الأمان‏.‏وكان بها جماعة من خدام السلطان ومخلفه فأمنهم السلطان تمر وحضروا عنده‏.‏وخرب القلعة وطمس معالمها وصادر أهل البلد على قناطير من الأموال استولى عليها بعد أن أخذ جميع ما خلفه صاحب مصر هنالك من الأموال والظهر والخيام أطلقأيدي النهابة على بيوت أهل المدينة فاستوعبوا أناسيها وأمتعتها وأضرموا النار فيما بقي من سقط الأقمشة والخرثي فاتصلت النار بحيطان الدور المدعمة بالخشب فلم تزل تتوقد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم وارتفعت إلى سقفه فسال رصاصه وتهدمت سقفه وحوائطه وكان أمراً بلغ مبالغه في الشناعة والقبح‏.‏وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد ويحكم في ملكه ما يشاء‏.‏وكان أيام مقامي عند السلطان تمر خرج إليه من القلعة يوم أمن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء بمصر من ذرية الحاكم العباسي الذي نصبه الظاهر بيبرس فوقف إلى السلطان تمر يسأله النصفة في أمره ويطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه فقال له السلطان تمر‏:‏ أنا أحضر لك الفقهاء والقضاة فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه‏.‏واستدعى الفقهاء والقضاة واستدعاني فيهم فحصرنا عنده وحضر هذا الرجل الذي يسأل منصب الخلافة فقال له عبد الجبار‏:‏ هذا مجلس النصفة فتكلم‏.‏فقال‏:‏ إن هذه الخلافة لنا ولسلفنا وإن الحديث صح بأن الأمر لبني العباس ما بقيت الدنيا يعني أمر الخلافة‏.‏وإني أحق من صاحب المنصب الآن بمصر لأن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقوه وصار إلى هذا بغير مستند فاستدعى عبد الجبار كلاً منا في أمره فسكتنا برهة ثم قال‏:‏ ما تقولون في هذا الحديث فقال برهان الدين بن مفلح‏:‏ الحديث ليس بصحيح‏.‏واستدعى ما عندي في ذلك فقلت‏:‏ الأمر كما قلتم من أنه غير صحيح فقال السلطان تمر‏:‏ فما الذي أصار الخلافة لبني العباس إلى هذا العهد في الإسلام وشافهني بالقول فقلت‏:‏ أيدك الله‏!‏ اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هل يجب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بأمورهم في دينهم ودنياهم أم لا يجب ذلك‏.‏فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب ومنهم الخوارج وذهب الجماعة إلى وجوبه واختلفوا في مستند ذلك الوجوب فذهب الشيعة كلهم إلى حديث الوصية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك لعلي واختلفوا في تنقلها عنه إلى عقبه إلى مذاهب كثيرة تشذ عن الحصر‏.‏وأجمع أهل السنة على إنكار هذه الوصية وأن مستند الوجوب في ذلك إنما هو الاجتهاد يعنون أن المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحق والفقه والعدل يفوضون إليه النظر في أمورهم‏.‏ولما تعددت فرق العلوية وانتقلت الوصية بزعمهم من بني الحنفية إلى بني العباس أوصى بها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وبث دعاته بخراسان‏.‏وقام أبو مسلم بهذه الدعوة فملك خراسان والعراق ونزل شيعتهم الكوفة واختاروا للأمر أبا العباس السفاح بن صاحب هذه الدعوة ثم أرادوا أن تكون بيعته على إجماع من أهل السنة والشيعة فكاتبوا كبار الأمة يومئذ وأهل الحل والعقد بالحجاز والعراق يشاورونهم في أمره فوقع اختيارهم كلهم على الرضى به فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع وإصفاق‏.‏ثم عهد بها إلى أخيه المنصور وعهد بها المنصور إلى بنيه فلما تزل متناقلة فيهم إما بعهد أو باختيار أهل العصر إلى أن كان المستعصم آخرهم ببغداد‏.‏فلما استولى عليها هولاكو وقتله افترق قرابته ولحق بعضهم بمصر وهو أحمد الحاكم من عقب الراشد فنصبه الظاهر بيبرس بمصر بممالأة أهل الحل والعقد من الجند والفقهاء‏.‏وانتقل الأمر في بيته إلى هذا الذي بمصر لا يعلم خلاف ذلك‏.‏فقال لهذا الرافع‏:‏ قد سمعت مقال القضاة وأهل الفتيا وظهر أنه ليس لك حق تطلبه عندي‏.‏فانصرف راشداً‏.‏الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر كنت لما لقيته وتليت إليه من السور كما مر أشار علي بعض الصحاب ممن يخبر أحوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم فأشار بأن أطرفه ببعض هدية وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم فانتقيت من سوق الكتب مصحفاً رائعاً حسناً في جزء محذو وسجادة أنيقة ونسخة من قصيدة البردة المشهورة للأبوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة‏.‏وجئت بذلك فدخلت عليه وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه فلما رآني مقبلاً مثل قائماً وأشار إلي عن يمينه فجلست وأكابر من الجقطية حفافية فجلست قليلاً ثم استدرت بين يديه وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها وهي بيد خدامي فوضعتها واستقبلني ففتحت المصحف فلما رآه وعرفه قام مبادراً فوضعه على رأسه‏.‏ثم ناولته البردة فسألني عنها وعن ناظمها فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها‏.‏ثم ناولته السجادة فتناولها وقبلها‏.‏ثم وضعت علب الحلوى بين يديه وتناولت منها حرفاً على العادة في التأنيس بذلك‏.‏ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه وتقبل ذلك كله وأشعر بالرضى به‏.‏ثم حومت على الكلام بما عندي في شأن نفسي وشأن أصحاب لي هنالك‏.‏فقلت أيدك الله‏!‏ لي كلام أذكره بين يديك فقال‏:‏ قل‏.‏فقلت أنا غريب بهذه البلاد غربتين واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشئي وأخرى من مصر وأهل جيلي بها وقد حصلت في ظلك وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي فقال‏:‏ قل الذي تريد أفعله لك فقلت‏:‏ حال الغربة أنستني ما أريد وعساك - أيدك الله - أن تعرف لي ما أريد‏.‏فقال‏:‏ انتقل من المدينة إلى الأردو عندي وأنا إن شاء الله أوفى كنه قصدك‏.‏فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك فأشار إليه بإمضاء ذلك فشكرت ودعوت وقلت‏:‏ وبقيت لي أخرى فقال‏:‏ وما هي فقلت‏:‏ هؤلاء المخلفون عن سلطان مصر‏.‏ودعوت وقلت‏:‏ وبقيت لي أخرى فقال‏:‏ وما هي فقلت‏:‏ هؤلاء المخلفون عن سلطان مصر‏.‏من القراء والموقعين والدواوين والعمال صاروا إلى إيالتك والملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير وعمالاتكم متسعة وحاجة ملككم إلى المتصرفين في صنوف الخدم أشد من حاجة غيركم فقال وما تريد لهم قلت‏:‏ مكتوب أمان يستنيمون إليه ويعولون في أحوالهم عليه‏.‏فقال لكاتبه‏:‏ أكتب لهم بذلك فشكرت ودعوت‏.‏وخرجت مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب الأمان وختمه شاه ملك بخاتم السلطان وانصرفت إلى منزلي‏.‏ولما قرب سفره واعتزم علم الرحيل عن الشام دخلت عليه ذات يوم فلما قضينا المعتاد التفت إلي وقال‏:‏ عندك بغلة هنا قلت نعم قال حسنة قلت نعم قال وتبيعها فأنا اشتريها منك فقلت‏:‏ أيدك الله‏!‏ مثلي لا يبيع من مثلك إنما أنا أخدمك بها وبأمثالها لو كانت لي فقال‏:‏ أنا أردت أن أكافئك عنها بالإحسان فقلت‏:‏ وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به اصطنعتني وأحللتني من مجلسك محل خواصك وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو الله أن يقابلك بمثله وسكت وسكت وحملت البغلة - وأنا معه في المجلس - إليه ولم أرها بعد‏.‏ثم دخلت عليه يوما آخر فقال لي‏:‏ أتسافر إلى مصر‏.‏فقلت أيدك الله رغبتي إنما هي أنت وأنت قد أويت وكفلت فإن كان السفر إلى مصر في خدمتك فنعم وإلا فلا بغية لي فيه فقال إلا بعد إذن من السلطان الذي بعثك إليه وأما دون ذلك فلا‏.‏ومضيت إلى صاحب الدولة فأخبرته الخبر فقال وما عليك فقلت إن ذلك لا يجمل بي أن أفعله دون اطلاعكم عليه فأغضى عن ذلك وبعثوا إلي بذلك المبلغ بعد مدة واعتذر الحامل عن نقصه بأنه أعطيه كذلك وحمدت الله على الخلاص‏.‏وكتبت حينئذ كتاباً إلى صاحب المغرب عرفته بما دار بيني وبين سلطان الططر تمر وكيف كانت واقعته معنا بالشام وضمنت ذلك في فصل من الكتاب نصه‏:‏ وإن تفضلتم بالسؤال عن حال المملوك فهي خير والحمد لله وكنت في العام الفارط توجهت صحبة الركاب السلطاني إلى الشام عندما زحف الططر إليه من بلاد الروم والعراق مع ملكهم تمر واستولى على حلب وحماة وحمص وبعلبك وخربها جميعاً وعاثت عساكره فيها بما لم يسمع أشنع منه‏.‏ونهض السلطان في عساكره لاستنقاذها وسبق إلى دمشق وأقام في مقابلته نحواً من شهر ثم قفل راجعاً إلى مصر وتخلف الكثير من أمرائه وقضاته وكنت في المخلفين‏.‏وسمعت أن سلطانهم تمر سأل عني فلم يسع إلا لقاؤه فخرجت إليه من دمشق وحضرت مجلسه وقابلني بخير واقتضيت منه الأمان لأهل دمشق وأقمت عنده خمسة وثلاثين يوماً أباكره وأراوحه‏.‏ثم صرفني وودعني على أحسن حال ورجعت إلى مصر‏.‏وكان طلب مني بغله كنت أركبها فأعطيته إياها وسألني البيع فتأففت منه لما كان يعامل به من الجميل فبعد انصرافي إلى مصر بعث إلي بثمنها مع رسول كان من جهة السلطان هنالك وحمدت الله تعالى على الخلاص من ورطات الدنيا‏.‏وهؤلاء الططر هم الذين خرجوا من المفازة وراء النهر بينه وبين الصين أعوام عشرين وستمائة مع ملكهم الشهير جنكزخان وملك المشرق كله من أيدي السلجوقية ومواليهم إلى عراق العرب وقسم الملك بين ثلاثة من بنيه وهم جقطاي وطولي ودوشي خان‏:‏ فجقطاي كبيرهم وكان في قسمته تركستان وكاشغر والصاغون والشاش وفرغانة وسائر ما وراء النهر من البلاد‏.‏وطولي كان في قسمته أعمال خراسان وعراق العجم والري إلى عراق العرب وبلاد فارس وسجستانوالسند‏.‏وكان أبناؤه‏:‏ قبلاي وهولاكو‏.‏ودوشي خان كان في قسمته بلاد قبجق ومنها صراي وبلاد الترك إلى خوارزم‏.‏وكان لهم أخ رابع يسمى أوكداي كبيرهم ويسمونه الخان ومعناه التخت وهو بمثابة الخليفة في ملك الإسلام‏.‏وانقرض عقبه وانتقلت الخانية إلى قبلاي ثم إلى بني دوشي خان أصحاب صراي‏.‏واستمر ملك الططر في هذه الدول الثلاث وملك هولاكو بغداد وعراق العرب إلى ديار بكر ونهر الفرات‏.‏ثم زحف إلى الشام وملكها ورجع عنها وزحف إليها بنوه مراراً وملوك مصر من الترك يدافعونهم عنها إلى أن انقرض ملك بني هولاكو أعوام أربعين وسبعمائة وملك بعدهم الشيخ حسن النوين وبنوه‏.‏وافترق ملكهم في طوائف من أهل دولتهم وارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام ومصر‏.‏ثم في أعوام السبعين أو الثمانين وسبعمائة ظهر في بني جقطاي وراء النهر أمير اسمه تيمور وشهرته عند الناس تمر وهو كافل لصبي متصل النسب معه إلى جقطاي في آباء كلهم ملوك وهذا تمر بن طرغاي هو ابن عمهم كفل صاحب التخت منهم اسمه محمود وتزوج أمه صرغتمش ومد يده إلى ممالك التتر كلها فاستولى عليها إلى عيار بكر ثم جال في بلاد الروم والهند وعاثت عساكره في نواحيها وخرب حصونها ومدنها في أخبار يطول شرحها‏.‏ثم زحف بعد ذلك إلى الشام ففعل به ما فعل والله غالب على أمره‏.‏ثم رجع آخراً إلى بلاده والأخبار تتصل بأنه قصد سمرقند وهي كرسيه‏.‏والقوم في عدد لا يسعه الإحصاء إن قدرت ألف ألف فغير كثير ولا تقول أنقص وإن خيموا في الأرض ملأوا الساح وإن سارت كتائبهم في الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء وهم في الغارة والنهب والفتك بأهل العمران وابتلائهم بأنواع العذاب على ما يحصلونه من فئاتهم آية عجب وعلى عادة بوادي الأعراب‏.‏وهذا الملك تمر من زعماء الملوك وفراعنتهم والناس ينسبونه إلى العلم وآخرون إلى اعتقاد الرفض لما يرون من تفضيله لأهل البيت وآخرون إلى انتحال السحر وليس من ذلك كله في شيء إنما هو شديد الفطنة والذكاء كثير البحث والفجاج بما يعلم وبما لا يعلم عمره بين الستين والسبعين وركبته اليمنى عاطلة من سهم أصابه في الغارة أيام صباه على ما أخبرني فيجرها في قريب المشي ويتناوله الرجال على الأيدي عند طول المسافة وهو مصنوع له والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده‏.‏

  ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر

كنت - لما أقمت عند السلطان تمر تلك الأيام التي أقمت - طال مغيبي عن مصر وشيعت الأخبار عني بالهلاك فقدم للوظيفة من يقوم بها من فضلاء المالكية وهو جمال الدين الأقفهسي غزير الحفظ والذكاء عفيف النفس عن التصدي لحاجات الناس ورع في دينه فقلدوه منتصف جمادى الآخرة من السنة‏.‏فلما رجعت إلى مصر عدلوا عن ذلك الرأي وبدا لهم في أمري فولوني في أواخر شعبان من السنة‏.‏واستمررت على الحال التي كنت عليها من القيام بالحق والإعراض عن الأغراض والإنصاف من المطالب ووقع الإنكار علي ممن لا يدين للحق ولا يعطي النصفة من نفسه فسعوا عند السلطان في ولاية شخص من المالكية يعرف بجمال الدين البساطي بذل في ذلك لسعاة داخلوه قطعة من ماله ووجوها من الأغراض في قضائه‏.‏قاتل الله جميعهم فخلعوا عليه أواخر رجب سنة أربع وثمانمائة‏.‏ثم راجع السلطان بصيرته انتقد رأيه ورجع إلي الوظيفة خاتم سنة أربع فأجريت الحال على ما كان‏.‏وبقي الأمر كذلك سنة وبعض الأخرى‏.‏وأعادوا البساطي إلى ما كان وبما كان وعلى ما كان وخلعوا عليه سادس ربيع الأول سنة ست ثم أعادوني عاشر شعبان سنة سبع ثم أدالوا به مني أواخر ذي القعدة من السنة وبيد الله تصاريف الأمور ‏.‏